في معنى لقاء الله تعالى
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
في معنى لقاء الله تعالى
في معنى لقاء الله تعالى
اعلم أن غير واحد من المفسرين ذهبوا في تفسير لقاء الله إلى لقاء العبد ثواب أعماله أو عقابه ونحوهما، وهذا الرأي كأنما نشأ من توهم القوم اللقاء بمعنى الرؤية بالأبصار و {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103]، فلما فهموا من اللقاء هذا المعنى احتاجوا إلى تقدير الثواب أو العقاب، أو حمل اللقاء على معنى آخر يناسب ما توهموه، ولكن ما مالوا إليه وهم، وليس اللقاء إلا الرؤية القلبية كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في جواب حبر قال له: ((يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟..
فقال عليه السلام: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، قال: وكيف رأيته؟.. قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان))،
وقال علم الهدى في الغرر والدرر (ص150ج1): أتى أعرابي أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام فقال له: هل رأيت ربك حين عبدته، نحو الخبر المذكور إلى آخره. وقد فسرنا هذا الحديث في شرحنا على المختار الثامن من باب الكتب من النهج وقد بينا هناك أن ما يتبادر إلى الأذهان من معنى الرؤية ونحوها هو الرؤية بالعين وذلك للألف بالمحسوسات والحشر معها، وأما السير إلى باطن هذه النشأة والسفر إليه وإدراك مع عبى في كلام الله المتعال وسفرائه ووجدانها من الدقائق واللطائف فلا يتيسر إلا لواحد بعد واحد. كما دريت أيضا أن الرؤية القلبية به تعالى هي الكشف الحضوري وشهوده تعالى للعبد على مقدار تقربه منه تعالى بقدم المعرفة ودرج معارف العقل، فراجع إلى المجلد السابع عشر من ص 308، إلى 323. قلوب العارفين لها عيون فترى ما لا يراه الناظرونا وقلت في قصيدتي التوحيدية، ما ترجمته: والذي يبصره العاشق لا تبصره نافذة رؤية الفكر والعقل ولا نعني من اللقاء الرؤية بكنهه تعالى فإن معرفته بالاكتناه لا يتيسر لما سواه، و ذلك لأن المعلول لا يرى علّته إلا بمقدار سعة وجوده، والمعلول ظل علته و عكسها والظل مرتبة ضعيفة من ذيه ولذا قالوا (( ان العلم بالعلة من العلم بالمعلوم علم بها من وجه )) يعني أنه علم ناقص بالعلة بقدر ظرف المعلول سعة وضيقا،{لا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم} [طه: 111]. وقد أفاد في ذلك فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق الكندي رحمة الله عليه بقوله: ((إذا كانت العلة الأولى متصلة بنا لفيضه علينا وكنا غير متصلين به إلا من جهته فقد يمكن فينا ملاحظته على قدر ما يمكن للمفاض عليه أن يلاحظ المفيض فيجيب أن لا ينسب قدر إحاطته بنا إلى قدر ملاحظتنا له لأنها أغزر و أوفر وأشد استغراقا)). ونعم ما أفاد، لله دره، ولا يخفى على أولي النهي أن هذا الكلام سام بعيد الغور. وما أجاد قول المحقق العارف أفضل الدين الكاشي في المقام: لقد قلت له إن كل ممالك الحسن هي ثروتك والشمس كالذرة تتحرك بأمرك فقال لي لن تجد في صنعنا خطأ واحدا وكل ما يصيبك منا هو أساس عملك وتبصر مما قدمنا أنه ما من موجود إلا وهو علم الحق تعالى لأن علمه بما سواه حضوري إشراقي، لميعزب عن علمه مثقال ذرة. وأفاد العلامة الشيخ البهائي في شرح الحديث الثاني من كتابه الأربعين: ((المراد بمعرفة الله تعالى الاطلاع على نعوته وصفاته الجلالية والجمالية بقدر الطاقة البشرية، وأما الاطلاع على حقيقة الذات المقدسة فمما لا مطمع فيه للملائكة المقربين والأنبياء المرسلين فضلا عن غيرهم، وكفى في ذلك قول سيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما عرفناك حق معرفتك))
وفي الحديث: ((إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم)). فلا تلتفت إلى من يزعم أنه قد وصل إلى كنه الحقيقة المقدسة بل أحث التراب في فيه، فقد ضل وغوى وكذب وافترى فإن الأمر أرفع وأطهر من أن يتلوث بخواطر البشر، وكلما تصوره العالم الراسخ فهو عن حرم الكبرياء بفراسخ، وأقصى ما وصل إليه الفكر العميق فهو غاية مبلغه من التدقيق، وما أحسن ما قال، ما ترجمته: كل ما تمتلكه لتصف به جلاله عز وجل هي غاية فهمك أنت وليست حقيقة ذاته جل وعلا بل الصفات التي تثبتها له سبحانه إنما هي على حسب أوهامنا وقدر أفهامنا فإنا نعتقد اتصافه سبحانه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلى عقولنا القاصرة وهو تعالى أرفع وأجل من جميع ما نصفه به. وفي كلام الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام إشارة إلى هذا المعنى حيث قال: كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ولعل النمل الصغار تتوهم أن لله تعالى زبانيتين فإن ذلك كمالها، وتتوهم أن عدمهما نقصان لمن لا يتصف بهما وهكذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به)) انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه. قال بعض المحققين – يعني به المولى الجلال الدواني- : هذا كلام دقيق رشيق أنيق صدر من مصدر التحقيق ومورد التدقيق، والسر في ذلك أن التكليف إنما يتوقف على معرقة الله بحسب الوسع والطاقة، وإنما كلفوا أن يعرفوه بالصفات التي ألفوها وشاهدوها فيهم مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إليهم. ولما كان الإنسان واجبا بغيره عالما قادرا مريدا حيا متكلما سميعا بصيرا كلف بأن يعتقد تلك الصفات في حقه تعالى مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إلى الإنسان بأن يعتقد أنه تعالى واجب لذاته لا بغيره، عالم بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات وهكذا في سائر الصفات، ولم يكلف باعتقاد صفة له تعالى لايوجد فيه مثالها ومناسبها، ولو كلف به لما أمكنه تعقله بالحقيقة، وهذا أحد معاني قوله عليه السلام: ((من عرف نفسه فقد عرف ربه))، انتهى كلامه.
واعلم أن تلك المعرفة التي يمكن أن تصل إليها أفهام البشر لها مراتب متخالفة ودرج متفاوتة، قال المحقق الطوسي طاب ثراه في بعض مصنفاته: إن مراتبها مثل مراتب معرفة النار مثلا فإن أدناها من سمع أن في الوجود شيئا يعدم كل شيء يلاقيه، ويظهر أثره في كل شيء يحاذيه، وأي شيء أخذ منه لم ينقص منه شيء ويسمى ذلك الموجود نارا، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة المقلدين الذين صدقوا بالدين من غير وقوف على الحجة. وأعلى منها مرتبة من وصل إليه دخان النار وعلم أنه لا بد له من مؤثر فحكم بذات لها أثر هو الدخان، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل النظر والاستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة على وجود الصانع. وأعلى منها مرتبة من أحس بحرارة النار بسبب مجاورتها وشاهد الموجودات بنورها وانتفع بذلك الأثر، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى سبحانه معرفة المؤمنين الخلص الذين اطمأنت قلوبهم بالله وتيقنوا أن الله نور السموات والأرض كما وصف به نفسه. وأعلى منها مرتبة من احترق بالنار بكليته وتلاشى فيها بجملته. نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل الشهود والفناء في الله وهي الدرجة العليا والمرتبة القصوى رزقنا الله الوصول إليها والوقوف عليها بمنه وكرمه، انتهى كلامه أعلى الله مقامه))، هذا آخر ما أردنا من نقل ما أتى به العلامة الشيخ البهائي طاب ثراه في المقام. ومعنى قوله (ره): ((فإنا نعتقد اتصافه سبحانه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلى عقولنا القاصرة)) أن العقل ينظر إلى الحياة وعدمها وهما نقيضان فيرى أن الحياة أشرف من الموت فيعتقد باتصافه سبحانه بها فيقول: إنه حي، وينظر إلى العلم ونقيضه الجهل فيعتقد باتصافه تعالى بالأشرف منهما فيقول: إنه عالم وهكذا. ومعنى كلام الدواني: ((ولم يكلف باعتقاد صفة له تعالى لم يوجد فيه مثالها ومناسبها)) يعلم من كلامنا الآتي في أسماء الله المستأثرة إن شاء الله تعالى.
وبالجملة أن ما يفهم الناس في مقام خطابهم الله تعالى و ندائهم إياه هو ما يجده أهل المعرفة ويسمون ذلك الوجدان بالكشف والشهود. قال العلامة الشيخ البهائي قدس سره في الكشكول (ص 416 من طبع نجم الدولة): ((العارف من أشهده الله تعالى صفاته وأسماءه وأفعاله فالمعرفة حال تحدث عن شهود، والعالم من أطلعه الله تعالى على ذلك لا عن شهود بل عن يقين. ومن ذاق هذه الحلاوة والتذ بتلك اللذة وتنعم بتلك النعمة فقد فاز فوزا عظيما، وهذا الوجدان الشهودي الحضوري الحاصل لأهله يدرك ولا يوصف هو طور وراء طور العقل يتوصل إليه بالمجاهدات الكشفية دون المناظرات العقلية. ولا يقدر أهله أن يقرره لغيره على النحو الذي أدركه، ولا يعدله لذة ولا ابتهاج، وانظر إلى قول ولي الله المتعال الإمام أبي عبدالله الصادق عليه السلام رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي بإسناده عن جميل بن دراج عنه عليه السلام قال: ((لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله تعالى ما مدوا أعينهم إلى ما متع به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها وكان دنياهم أقل عندهم مما يطؤونه بأرجلهم، ولنعموا بمعرفة الله تعالى، وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله، إن معرفة الله أنس من كل وحشة، وصاحب من كل وحدة ونور من كل ظلمة، وقوة من كل ضعف، وشفاء من كل سقم، قال: قد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير، وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردهم عما هم عليه شيء مما هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى مما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، فسلوا ربكم درجاتهم واصبروا على نوائب دهركم)) (باب ثواب العالم والمتعلم من المجلد الأول من الوافي ص 42).
ثم إن التوغل في عالم الطبيعة الذي هو عالم الكثرة والشتات صار حجابا للمتوغلين فيه ولو خلصوا منه وأقبلوا إلى ما هو الحق الأصيل وعرفوا معنى التوحيد و والفناء فيه وصاروا موحدين على النهج الذي قال عز وجل من قائل: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 4] بلا تنزيه محض وتشبيه باطل لارتفع الخلاف والنزاع بينهم، ولما شاجروا أهل المعرفة في ما يجدونه ويرونه قائلين: ما كنا نعبد ربا لم نره. كما أن من لم يقدر الجمع بين الجمع والتفرقة إذا سمع من الفائزين به ينكره كل الإنكار. وإذا تفوه فإن في التوحيد بقوله: ((ليس في الدار غيه ديار))، أو ((ليس الدار ومن في الدار إلا هو))، أو ((أن الله كل الأشياء)) أو نحوها من العبارات، تقول عليه من لم يدرك فهم كلامه بعض الأقاويل ولم يعلم أن سببه إنما هو تراكم عروق سبل الجهل المركب الناشئة من التقليدات الراخسة المانعة له عن ذلك الإدراك. بل كثيرا ما نرى أصاغر لا يبالون بما يقولون إذا سمعوا من متأله أن الوجود واحد لا تعدد فيه والوجود هو الله تعلى أسندوه إلى الكفر والإلحاد والزندقة ولم يعلموا أن نفي الوجود الحقيقي عن الأشياء ليس قولا بأن كل شيء هو الله وليس قولا بالاتحاد وقد نقل طود العلم والتقى العارف المتأله المولى ميرزا جواد آقا الملكي التبريزي أعلى الله تعالى درجاته في كتابه القيم المعمول في لقاء الله تعالى حكاية بقوله:
حكى أن حكيما كان في إصبهان وكان من دأبه أنه إذا حضر وقت غذائه يرسل خادمه يشتري له ولمن كان عنده كائنا من كان غذاء يأكل معه، واتفق في يوم أن جاءه واحد من طلاب البلد لحاجة وقت الغذاء، فقال الحكيم لخادمه: اشتر لنا غذاء نتغذى وذهب الخادم واشترى لهما غذاء وأحضره، قال الحكيم للفاضل: بسم الله، تعال، نتغذى، قال الشيخ: أنا لا أتغذى، قال: تغذيت؟.. قال: لا، قال: لم تتغذى وأنت ما تغذيت بعد؟!... قال: أحتاط أن آكل من غذائكم، قال: ما وجه احتياطك؟.. قال: سمعت أنك تقول بوحدة الوجود وهو كفر ولا يجوز لي أن آكل من طعامك معك لأنه ينجس من ملاقاتك، قال: ما فرضت أنت معنى وحدة الوجود وحكمت بكفر قائله؟.. قال: من جهة أن القائل به قائل بأن الله كل الأشياء وجميع الموجودات هو الله، قال: أخطأت تعال تغذ لأني قائل بوحدة الوجود ولا أقول بأن جميع الأشياء هو الله لأن من جملة الأشياء جنابك وأنا لا أشك في كونك بدرجة الحمار أو أخس منها فأين القولبإلهيتك؟!.. فلا احتياط ولا إشكال تعال تغذ)) انتهى. وقلت: قد رأى حكيم ناسكا جاهلا في يده سبحة يذكر الحكماء واحدا بعد واحد ويلعنهم فقال له: لماذا تلعنهم وما أوجب لعنهم؟.. قال: لأنهم قائلون بوحدة واجب الوجود، فتبسم الحكيم ضاحكا من قوله فقال له: أنا أيضا قائل بوحدة واجب الوجود فاشتد الناسك غضبا فقال: اللهم العنه.
اعلم أن غير واحد من المفسرين ذهبوا في تفسير لقاء الله إلى لقاء العبد ثواب أعماله أو عقابه ونحوهما، وهذا الرأي كأنما نشأ من توهم القوم اللقاء بمعنى الرؤية بالأبصار و {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103]، فلما فهموا من اللقاء هذا المعنى احتاجوا إلى تقدير الثواب أو العقاب، أو حمل اللقاء على معنى آخر يناسب ما توهموه، ولكن ما مالوا إليه وهم، وليس اللقاء إلا الرؤية القلبية كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في جواب حبر قال له: ((يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟..
فقال عليه السلام: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، قال: وكيف رأيته؟.. قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان))،
وقال علم الهدى في الغرر والدرر (ص150ج1): أتى أعرابي أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام فقال له: هل رأيت ربك حين عبدته، نحو الخبر المذكور إلى آخره. وقد فسرنا هذا الحديث في شرحنا على المختار الثامن من باب الكتب من النهج وقد بينا هناك أن ما يتبادر إلى الأذهان من معنى الرؤية ونحوها هو الرؤية بالعين وذلك للألف بالمحسوسات والحشر معها، وأما السير إلى باطن هذه النشأة والسفر إليه وإدراك مع عبى في كلام الله المتعال وسفرائه ووجدانها من الدقائق واللطائف فلا يتيسر إلا لواحد بعد واحد. كما دريت أيضا أن الرؤية القلبية به تعالى هي الكشف الحضوري وشهوده تعالى للعبد على مقدار تقربه منه تعالى بقدم المعرفة ودرج معارف العقل، فراجع إلى المجلد السابع عشر من ص 308، إلى 323. قلوب العارفين لها عيون فترى ما لا يراه الناظرونا وقلت في قصيدتي التوحيدية، ما ترجمته: والذي يبصره العاشق لا تبصره نافذة رؤية الفكر والعقل ولا نعني من اللقاء الرؤية بكنهه تعالى فإن معرفته بالاكتناه لا يتيسر لما سواه، و ذلك لأن المعلول لا يرى علّته إلا بمقدار سعة وجوده، والمعلول ظل علته و عكسها والظل مرتبة ضعيفة من ذيه ولذا قالوا (( ان العلم بالعلة من العلم بالمعلوم علم بها من وجه )) يعني أنه علم ناقص بالعلة بقدر ظرف المعلول سعة وضيقا،{لا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم} [طه: 111]. وقد أفاد في ذلك فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق الكندي رحمة الله عليه بقوله: ((إذا كانت العلة الأولى متصلة بنا لفيضه علينا وكنا غير متصلين به إلا من جهته فقد يمكن فينا ملاحظته على قدر ما يمكن للمفاض عليه أن يلاحظ المفيض فيجيب أن لا ينسب قدر إحاطته بنا إلى قدر ملاحظتنا له لأنها أغزر و أوفر وأشد استغراقا)). ونعم ما أفاد، لله دره، ولا يخفى على أولي النهي أن هذا الكلام سام بعيد الغور. وما أجاد قول المحقق العارف أفضل الدين الكاشي في المقام: لقد قلت له إن كل ممالك الحسن هي ثروتك والشمس كالذرة تتحرك بأمرك فقال لي لن تجد في صنعنا خطأ واحدا وكل ما يصيبك منا هو أساس عملك وتبصر مما قدمنا أنه ما من موجود إلا وهو علم الحق تعالى لأن علمه بما سواه حضوري إشراقي، لميعزب عن علمه مثقال ذرة. وأفاد العلامة الشيخ البهائي في شرح الحديث الثاني من كتابه الأربعين: ((المراد بمعرفة الله تعالى الاطلاع على نعوته وصفاته الجلالية والجمالية بقدر الطاقة البشرية، وأما الاطلاع على حقيقة الذات المقدسة فمما لا مطمع فيه للملائكة المقربين والأنبياء المرسلين فضلا عن غيرهم، وكفى في ذلك قول سيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما عرفناك حق معرفتك))
وفي الحديث: ((إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم)). فلا تلتفت إلى من يزعم أنه قد وصل إلى كنه الحقيقة المقدسة بل أحث التراب في فيه، فقد ضل وغوى وكذب وافترى فإن الأمر أرفع وأطهر من أن يتلوث بخواطر البشر، وكلما تصوره العالم الراسخ فهو عن حرم الكبرياء بفراسخ، وأقصى ما وصل إليه الفكر العميق فهو غاية مبلغه من التدقيق، وما أحسن ما قال، ما ترجمته: كل ما تمتلكه لتصف به جلاله عز وجل هي غاية فهمك أنت وليست حقيقة ذاته جل وعلا بل الصفات التي تثبتها له سبحانه إنما هي على حسب أوهامنا وقدر أفهامنا فإنا نعتقد اتصافه سبحانه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلى عقولنا القاصرة وهو تعالى أرفع وأجل من جميع ما نصفه به. وفي كلام الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام إشارة إلى هذا المعنى حيث قال: كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ولعل النمل الصغار تتوهم أن لله تعالى زبانيتين فإن ذلك كمالها، وتتوهم أن عدمهما نقصان لمن لا يتصف بهما وهكذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به)) انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه. قال بعض المحققين – يعني به المولى الجلال الدواني- : هذا كلام دقيق رشيق أنيق صدر من مصدر التحقيق ومورد التدقيق، والسر في ذلك أن التكليف إنما يتوقف على معرقة الله بحسب الوسع والطاقة، وإنما كلفوا أن يعرفوه بالصفات التي ألفوها وشاهدوها فيهم مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إليهم. ولما كان الإنسان واجبا بغيره عالما قادرا مريدا حيا متكلما سميعا بصيرا كلف بأن يعتقد تلك الصفات في حقه تعالى مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إلى الإنسان بأن يعتقد أنه تعالى واجب لذاته لا بغيره، عالم بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات وهكذا في سائر الصفات، ولم يكلف باعتقاد صفة له تعالى لايوجد فيه مثالها ومناسبها، ولو كلف به لما أمكنه تعقله بالحقيقة، وهذا أحد معاني قوله عليه السلام: ((من عرف نفسه فقد عرف ربه))، انتهى كلامه.
واعلم أن تلك المعرفة التي يمكن أن تصل إليها أفهام البشر لها مراتب متخالفة ودرج متفاوتة، قال المحقق الطوسي طاب ثراه في بعض مصنفاته: إن مراتبها مثل مراتب معرفة النار مثلا فإن أدناها من سمع أن في الوجود شيئا يعدم كل شيء يلاقيه، ويظهر أثره في كل شيء يحاذيه، وأي شيء أخذ منه لم ينقص منه شيء ويسمى ذلك الموجود نارا، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة المقلدين الذين صدقوا بالدين من غير وقوف على الحجة. وأعلى منها مرتبة من وصل إليه دخان النار وعلم أنه لا بد له من مؤثر فحكم بذات لها أثر هو الدخان، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل النظر والاستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة على وجود الصانع. وأعلى منها مرتبة من أحس بحرارة النار بسبب مجاورتها وشاهد الموجودات بنورها وانتفع بذلك الأثر، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى سبحانه معرفة المؤمنين الخلص الذين اطمأنت قلوبهم بالله وتيقنوا أن الله نور السموات والأرض كما وصف به نفسه. وأعلى منها مرتبة من احترق بالنار بكليته وتلاشى فيها بجملته. نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل الشهود والفناء في الله وهي الدرجة العليا والمرتبة القصوى رزقنا الله الوصول إليها والوقوف عليها بمنه وكرمه، انتهى كلامه أعلى الله مقامه))، هذا آخر ما أردنا من نقل ما أتى به العلامة الشيخ البهائي طاب ثراه في المقام. ومعنى قوله (ره): ((فإنا نعتقد اتصافه سبحانه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلى عقولنا القاصرة)) أن العقل ينظر إلى الحياة وعدمها وهما نقيضان فيرى أن الحياة أشرف من الموت فيعتقد باتصافه سبحانه بها فيقول: إنه حي، وينظر إلى العلم ونقيضه الجهل فيعتقد باتصافه تعالى بالأشرف منهما فيقول: إنه عالم وهكذا. ومعنى كلام الدواني: ((ولم يكلف باعتقاد صفة له تعالى لم يوجد فيه مثالها ومناسبها)) يعلم من كلامنا الآتي في أسماء الله المستأثرة إن شاء الله تعالى.
وبالجملة أن ما يفهم الناس في مقام خطابهم الله تعالى و ندائهم إياه هو ما يجده أهل المعرفة ويسمون ذلك الوجدان بالكشف والشهود. قال العلامة الشيخ البهائي قدس سره في الكشكول (ص 416 من طبع نجم الدولة): ((العارف من أشهده الله تعالى صفاته وأسماءه وأفعاله فالمعرفة حال تحدث عن شهود، والعالم من أطلعه الله تعالى على ذلك لا عن شهود بل عن يقين. ومن ذاق هذه الحلاوة والتذ بتلك اللذة وتنعم بتلك النعمة فقد فاز فوزا عظيما، وهذا الوجدان الشهودي الحضوري الحاصل لأهله يدرك ولا يوصف هو طور وراء طور العقل يتوصل إليه بالمجاهدات الكشفية دون المناظرات العقلية. ولا يقدر أهله أن يقرره لغيره على النحو الذي أدركه، ولا يعدله لذة ولا ابتهاج، وانظر إلى قول ولي الله المتعال الإمام أبي عبدالله الصادق عليه السلام رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي بإسناده عن جميل بن دراج عنه عليه السلام قال: ((لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله تعالى ما مدوا أعينهم إلى ما متع به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها وكان دنياهم أقل عندهم مما يطؤونه بأرجلهم، ولنعموا بمعرفة الله تعالى، وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله، إن معرفة الله أنس من كل وحشة، وصاحب من كل وحدة ونور من كل ظلمة، وقوة من كل ضعف، وشفاء من كل سقم، قال: قد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير، وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردهم عما هم عليه شيء مما هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى مما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، فسلوا ربكم درجاتهم واصبروا على نوائب دهركم)) (باب ثواب العالم والمتعلم من المجلد الأول من الوافي ص 42).
ثم إن التوغل في عالم الطبيعة الذي هو عالم الكثرة والشتات صار حجابا للمتوغلين فيه ولو خلصوا منه وأقبلوا إلى ما هو الحق الأصيل وعرفوا معنى التوحيد و والفناء فيه وصاروا موحدين على النهج الذي قال عز وجل من قائل: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 4] بلا تنزيه محض وتشبيه باطل لارتفع الخلاف والنزاع بينهم، ولما شاجروا أهل المعرفة في ما يجدونه ويرونه قائلين: ما كنا نعبد ربا لم نره. كما أن من لم يقدر الجمع بين الجمع والتفرقة إذا سمع من الفائزين به ينكره كل الإنكار. وإذا تفوه فإن في التوحيد بقوله: ((ليس في الدار غيه ديار))، أو ((ليس الدار ومن في الدار إلا هو))، أو ((أن الله كل الأشياء)) أو نحوها من العبارات، تقول عليه من لم يدرك فهم كلامه بعض الأقاويل ولم يعلم أن سببه إنما هو تراكم عروق سبل الجهل المركب الناشئة من التقليدات الراخسة المانعة له عن ذلك الإدراك. بل كثيرا ما نرى أصاغر لا يبالون بما يقولون إذا سمعوا من متأله أن الوجود واحد لا تعدد فيه والوجود هو الله تعلى أسندوه إلى الكفر والإلحاد والزندقة ولم يعلموا أن نفي الوجود الحقيقي عن الأشياء ليس قولا بأن كل شيء هو الله وليس قولا بالاتحاد وقد نقل طود العلم والتقى العارف المتأله المولى ميرزا جواد آقا الملكي التبريزي أعلى الله تعالى درجاته في كتابه القيم المعمول في لقاء الله تعالى حكاية بقوله:
حكى أن حكيما كان في إصبهان وكان من دأبه أنه إذا حضر وقت غذائه يرسل خادمه يشتري له ولمن كان عنده كائنا من كان غذاء يأكل معه، واتفق في يوم أن جاءه واحد من طلاب البلد لحاجة وقت الغذاء، فقال الحكيم لخادمه: اشتر لنا غذاء نتغذى وذهب الخادم واشترى لهما غذاء وأحضره، قال الحكيم للفاضل: بسم الله، تعال، نتغذى، قال الشيخ: أنا لا أتغذى، قال: تغذيت؟.. قال: لا، قال: لم تتغذى وأنت ما تغذيت بعد؟!... قال: أحتاط أن آكل من غذائكم، قال: ما وجه احتياطك؟.. قال: سمعت أنك تقول بوحدة الوجود وهو كفر ولا يجوز لي أن آكل من طعامك معك لأنه ينجس من ملاقاتك، قال: ما فرضت أنت معنى وحدة الوجود وحكمت بكفر قائله؟.. قال: من جهة أن القائل به قائل بأن الله كل الأشياء وجميع الموجودات هو الله، قال: أخطأت تعال تغذ لأني قائل بوحدة الوجود ولا أقول بأن جميع الأشياء هو الله لأن من جملة الأشياء جنابك وأنا لا أشك في كونك بدرجة الحمار أو أخس منها فأين القولبإلهيتك؟!.. فلا احتياط ولا إشكال تعال تغذ)) انتهى. وقلت: قد رأى حكيم ناسكا جاهلا في يده سبحة يذكر الحكماء واحدا بعد واحد ويلعنهم فقال له: لماذا تلعنهم وما أوجب لعنهم؟.. قال: لأنهم قائلون بوحدة واجب الوجود، فتبسم الحكيم ضاحكا من قوله فقال له: أنا أيضا قائل بوحدة واجب الوجود فاشتد الناسك غضبا فقال: اللهم العنه.
ابو نور الهدى الناصري- المساهمات : 55
تاريخ التسجيل : 05/03/2008
رد: في معنى لقاء الله تعالى
في الحقيقة ان معرفة الله ولقاءه ترتبط بمعرفة النفس
من عرف نفسه فقد عرف ربه
سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم بتعبير القران
وايضا
لقد راى من ايات ربه الكبرى
ان النفس الانسانية كيان قابل لان يصل الى اعلى مراتب الوجود اذا استطعنا معرفتها بحق
ببوركت عل هذا الطرح الراقي
من عرف نفسه فقد عرف ربه
سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم بتعبير القران
وايضا
لقد راى من ايات ربه الكبرى
ان النفس الانسانية كيان قابل لان يصل الى اعلى مراتب الوجود اذا استطعنا معرفتها بحق
ببوركت عل هذا الطرح الراقي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى